سفينة نوح العلميّة و الحيوان الأخيرأو كيف ينقذ الإنسان بالعزلة؟

لوحة "رقصة الموت"  للرسام الهولندي بيتر بروغيل

عزلة من أجل الانسانية


وإذا كانتِ النُفوسُ كِباراً ... تَعِبَتْ في مُرادِها الأَجسامُ
بِذا قَضَتِ الأَيَّامُ ما بينَ أَهلِها ... مَصائِبُ قَومٍ عِنْدَ قَومٍ فَوائِدُ
المُتَنبي
في أيام الحجر الصحّى و العزلة الإجتماعيّة و الفرديّة تمر بقلقك اللاشخصي فتزدري أنفسك السطحيّة الوحيدة
 و لا تجد إلّا الفراغ و الهشاشة و المشهد الفضيع، تطلق الجماح لإنفعالات طفوليّة و عواطف تعتقد أنّها ستكسر
 وحدتك فتتفطّن أنّه "ما يستيقظ في عزلتك هو كامن فيك أصلاً". هنا الشرق مكان خصب يمتزج بين وحدة الصوفيّ
 يلاقي الروح و يرتقي للتجلّي  و هناك عتبة تتعمّد بخلوة زارادشت الحكيم حاضنا نسرك و الأفعوان و غَربَكَ خيّر 
العزلة كي لا تكن و أحبّتك جزءا من مشهد جنائزيّ، هناك الغربة تنتظر لتلتهم لحمك و مخيّلتك و تؤبدك في أسرّة 
الثنائيّات.
من سيتحمّل وزر كل هذه الحماقات البشريّة وهذا الدهاء الوبائي؟  هل هم نفسهم من مشوا طربا على حافة تعصب
 الملة و الشعوذة الخطابيّة اللغويّة؟ 
و من سيعبر؟ هل هم من ينظرون  لأرض الجنوب وعلى يمينهم أكثرمن كتاب وفي عيونهم حبّ الحياة و الإنسان؟   
 من هو المسؤول غضب الله على قوم حبّذوا الخنوع و الخرافة خيارا؟ أم أنّها المخابر الأمريكية تهتك سور الصين 
الإقتصادي و تقطع طريق الحرير؟ أم هي مخابر الصين تسعى لتمريغ أنف أمريكا الترامبيّة الحمائيّة؟ أو لعلّهم 
اليهود ينتفون  لحى باقي الإبراهيميين أو ما تبقّى منها؟ لعلّها الهند أرادت الإنتقام للإنسان من شرق نسيَ عمقه 
و غرب محتضر ؟ 
هكذا هي الفرضيّات هوجاء ما إن تجد مرتكزا حتى تتحوّل الى نظريّة قتل أخرى و نستبق الإجابات بتداعِ 
مسبقِ فضفاض.
 إنّ هذا المواطن العالمي هو نتاج سيرورة  ما قدّم اليه من مؤسسات الدولة السلطة و الاقتصاد الليبرالي و الإعلام
 الفرجوي إلّا من اختلف عن النمط فإستحال غربة واقعة. 
هذه الدول  هي "نتاج علاقات إستراتيجيّة  لتقنيات و ممارسات" و هي منظومات  خياراتكم الإرتكاسيّة العاطفيّة
 و الروحانيّة. لقد أنتجتم صوركم الحاضرة فلماذا تتباكون كالعجزة المجانين و تتداعون على محاربكم؟ 
 لقد خيّر الإنسان  مهرّجا "مشهديّا" على عالم في المخابر و أغدق آلاف المليارات على لاعبي كرة  القدم 
و أداروا ظهورهم للباحثين و الدارسين للعلوم.
 تهافتوا على عمود الأبراج و ارقام الدجلة المحتالين باحثين عن أمل واهن في السماء و تندروا لقول النقاد
 و المفكّرين المحذّرين من النمط الاستهلاكي الفج. تهافتوا على الحياة كحيوانات جامحة لا كأناس متفوّقين.
هكذا سيتبارى  الأفراد في الفناء على النجاة و تتبارى الجماعات في الكارثة على النفي و سيكون العضوي النفسي
 في شكل فيسيولوجي متاح للعالم في صورة إفتراضيّة و ستتبارى "الأرواح المرحة" و الحمقاء على الرقص 
و الغناء و الكتابة و إختراع وسائط المقاومة ووسائل النجاة. 
لعلّنا نعترف هذه المرة أنّ داخل الحماقات الكبرى هناك حماقة فرديّة و داخل سرديّات الفاجعة و النهايات هنالك 
دائما ألم و فقدان خاص. 
هو حقا قلق   يختفي خلف كائن أعمته مركزيّته الوهمية لإشباع  وجوده المتعالي كائن بشريّ يحصى لدى البيولوجيين
 كـ0.01 بالمئة من الكائنات التي بقيت على قيد الحياة ولم تنقرض إلى حد الآن، نحن الحاضر في 0.004 بالمئة 
من تاريخ وجود هذه الكائنات مذ الطفرات  الأولى على أرض، هذا البشري واحد من 7000 كائن فقري من 100
 مليون كائن حي و إن أضفنا الكائنات المجهرية فسيصبح هذا الانسان حبة رمل من آلاف المليارات في صحراء 
العالم.
القلق على مصيرنا الهش بعد أن تجرّأ هذا الكائن المجهري على تغيير نمط وجودنا متذمر و نحن على عرش 
الإرتقاء و السيطرة النوويّة و الذريّة.
الأمل أنّ هذه الحضارة البشريّة  لها من الأجهزة العلميّة ما لم تستطع أجهزة الرقابة و السلطة و الإستغلال ابتلاعه 
في قوانين السوق و الربح.  
 تبدأ مصادرة الأمكنة لتصبح  كلّ الأزمنة مشروعة للنهوض تلتهم الوقت كما يلتهم "كرونوس" أبنائه  تهرول 
من فراشك و تعلم أنّ هذا اليوم سيكون الشارع خاليا تقريبا من الأحياء، فقط هم ضحايا أنفسهم و ماكينات الإقتصاد
 والسلطة من يمرون بين الأرصفة. يوم آخر من السكون، إلى أين الذهاب؟ و لم تتحصل بعد على تصريح التنقل . 
 تهرول الى أخبار اليوم عدد المصابين يرتفع قشعريرة خفيفة تحيط بحيويّتك فتتسائل عن أحوال أحبّتك وتلجأ لهاتفك
 و تبدأ روتينا من الأسئلة على حياة و تبدأ الإجابات المنتظرة. ماذا كنت تنتظر فاجعة إصابة أحدهم؟ شيطان يقفز
 إلى رؤوسهم ليغدقن عليك بالسباب أنك قاطعت وحدتهم؟حزمة من الكلام بهيج عن الحقيقة  و الأمل؟ 
هناك مجتمعات عجائنيّّة تخمل و تتخمّر في العادة كآلات إستهلاكيّة تعيق التعلّم و الإرادة و كأنّ الدروس القديمة
 كافية و الألواح القديمة كتبت كلّ شيء و كأنّ الإنسان القديم قال كلّ شيء. نعم لقد قالوا كلّ شيء انّ هؤلاء
 العجائنيّون مخصيّون يخوضون معارك مصيرهم بلا قالب و لا مقلوب للقيم.
سقطت السماء على الأرض ليفرّق الأمل في مخابر الأدويّة التي تخفي عذوّا قيمياّ آخر.
 هذا الإنسان الذي يتشارك حجره مع سكان قريته العالميّة لن تطول محنته إلّا بالتماهي مع آخرهُ.
لا يمكن أن تكونوا متدينين دون أن تكونوا متخلّقين و إن كنتم دون تخلّق فأنتم خطر حقيقي على الآدميين و البشريين.
 كما لا يمكن أن تكونوا حداثيين دون أصالة و إلّا فأنتم جبناء و أناس مؤقتون فرديون حدّ الحيوان الأخير.
نحن كمجمّعات فيروسية كبرى ما كان ممكنّا أن نتكشّف على صورنا و معرفتنا بحاضرنا دون هذه المجاهر
 الالكترونية و العدسات المعدنيّة للمعيشي الحثيث و ما المطرقة و الجينيالوجيا الأخلاقيّة و التفكيك و الأركيولوجيا  
الّا جزء من التفوّق الّتي مكنتنا من رفع اللثام و التصنيف و التعدي و التجاوز و التكسير لهذه الجسيمات
 ألأحاديّة الخليّة و المتعددة الانماط التي أطلق عليها الرومان هذه التسمية virus السم المنبعث من المستنقعات 
و المياه الراكدة أمّا العرب فنجد العافية  آكلات البكتيري و الجدري القاتل و الطاعون الماغولي الكوليرا
 و التايفود الياباني الحمّى الإسبانية و الكورونا الصينيّة . 
تتعدّد الأسماء إلّا أنّ هذا الأفق السيميائي لا يقدم لنا غير ذاكرة مليئة بصور الجثث  و النعوش و خوف عميق أصيل
 من الأوبئة و من قصص الأهوال أمّا علوم الحاضر فها هي تقول:
- إتبعو التعاليم و كلّ شيء سيكون على ما يرام. 
-"لا أمل" إلاّ فيكم و لا نهاية الجائحة إلّا بكم.  
تصدح الدولة:
- أنا هنا حاضرة لكلّ منكم على قدر الإمكان و لا يمكن للإمكان أن يكون أكثر ممّا كان.  
يخاطبكم الإغريقيون القدامى:
- إنّ الخير يسلك مسلك الحقيقة. 
يكرّر مهندسي الإرادات الحرّة:
- كل حكم له قيمة و كل سلوك هو نابع عن واجب.
يقول التاجر: جهل الناس بطريقة سير الأمور يجعلهم سجيني أحكامهم فكلّ ما أخذ سيرد.
يصافحه  المصرفيّ مردفا: 
-  سنكون حاضرين بقوّة بعد الأزمة و سنقدّم لكم توابيت و قروض تسد رمقكم.
يتشبّث الإمام بعنق القس و القس بشعرة قرد والقرد بغصن ليلكيّ بنفسجيّ كلون الكورونا الحديث  يهمهم القرد 
و يرقص رقصة الموت: 
هذا عود المعركة 
 الأحياء و الموت، 
راقصة بقضيب اصطناعي 
 رهبان نسي الكتاب
نعاج بشريّة تحتمي من خفّاش 
أين الطاعون الأسود المهاب ؟
أحفاده يلهون مع عامل زراعي 
و أعادوا ترتيب أعواد الكبريت 
لحرق الجثث بإنتظام 
الأغنياء يتبرّعون بالألقاب
و دزينة من مال زهيد
و الفقراء أعواد ثقاب
لم تصنعوا شيئا ليحاكمكم الله
ملجأكم الأخير لغيريّتكم 
و معبركم لعلومكم
ترككم لجهلكم
معشر النائمين على صرح العولمة يتهافتون نتيجة خياراتهم و ينقلبون على أنفسهم. هم من حاولوا نحر سيادة
 هذه الشعوب و هم من  قّدموا للوبيّات المافيا قطاعات التربية والصحة و الغذاء. هم من أوكلوا للشركات العالميّة
 تنظيم العمل و توزيع الثروة و اليوم هم يجنون ما صنعت أيديهم.
 غصّت غرف الإنعاش برؤساء دول الحيلة الليبراليّة و بقيت الشعوب الحرّة تلملم طبائعها  و خبراتها و علمائها
لتنفض غبار الفردانيّة المحتضرة . 
 الأرض سئمت من مقالع الحجارة و مضخّات النفط و حروب أهلها و براز المصانع تريد الإستماع فقط إلى أناشيد 
سقوط المطر على أوراق أشجار الصنوبر و إيماءات الحيتان الزرقاء في المحيطات و خفقان القلوب المنشدة للأحبّة
 و الحريّة و العدالة.
و أخيرا في هذه الأيام العصيبة اطمئنوا على بعضكم البعض، اتصلوا بأحبّتكم أنصتوا إليهم. تراحموا 
و تضامنوا فلا مناص لكم بعجزكم العلمي الّا تكافلكم، لعلّكم تتجاوزون الكارثة بأخفّ الأضرار. 
إنّ الجهل و الأنانيّة التي فطرتكم عليها مؤسّسات الربح و الدجل ستكون هي خرابكم فلا مناص لكم الّا أن تتوحّد قوّة
 الإرادة و البقاء الفرديّة مع باقي الإرادات و القوى. أنظروا في أعين الشعوب الأخرى و أنصتوا لما يوحّدكم مع هذا
 البشريّ في العالم و ان متتم فموتوا على الأقل بشرف لا بالفاجعة.
الأنانيّة أبشع من الوباء
متضامنون من أجل الإنسانيّة

أحمد الساسي





Comments

Popular Posts